بين الشك واليقين
في ليلة هادئة، جلس "يوسف" في غرفته الصغيرة التي تزينت بأرفف مليئة بالكتب. كان شاباً في منتصف العشرينات، نشأ في عائلة متدينة وتعلم منذ صغره أن الدين هو البوصلة التي تقوده في حياته. ورغم أنه كان يعتقد أنه يسير على الطريق الصحيح، إلا أن الشكوك بدأت تتسلل إلى قلبه. كانت تراوده أسئلة عن معنى الحياة وعن وجود الله، وعن القدر والإيمان. لم يكن يشك في إيمانه بقدر ما كان يبحث عن إجابات مقنعة للمعضلات التي تراكمت في عقله.
في أحد الأيام، تلقى يوسف دعوة من صديق قديم يُدعى "عمر"، لم يكن قد رآه منذ سنوات. دعاه عمر لحضور محاضرة دينية كان يلقيها شيخ معروف في المدينة. تردد يوسف في البداية، فهو لا يشعر أنه بحاجة إلى المزيد من النصائح أو الخطب. لكنه قرر أن يذهب، ربما لأن قلبه كان يتوق إلى إجابة قد يجدها في تلك الجلسة.
وصل يوسف إلى القاعة المليئة بالناس. جلس في الخلف بهدوء، وبدأ الشيخ يتحدث عن "الابتلاءات والصبر". لم تكن الخطبة جديدة عليه، فقد سمع مثلها مرات عديدة، لكن هذه المرة كانت الكلمات تصيبه بشكل مختلف. تحدث الشيخ عن قصة النبي أيوب وكيف أن الله ابتلاه بأشد أنواع الابتلاءات، في جسده وماله وأهله، لكنه صبر واحتسب، وكان راضياً بقضاء الله. قال الشيخ: "ليس الابتلاء عقوبة، بل هو امتحان، وعلينا أن نثق بأن الله لا يختبرنا إلا بما نتحمل، وأن في كل محنة منحة، وفي كل ألم حكمة".
تأثر يوسف كثيرًا بهذه الكلمات، وبدأ يستعيد في ذاكرته كل اللحظات الصعبة التي مر بها في حياته. تذكر كيف فقد والده في حادث مفاجئ وكيف عانت عائلته من الفقر بعد رحيله. تذكر أيضًا كيف كان يشعر بالغضب أحيانًا، يتساءل لماذا يحدث هذا له ولأسرته.
بعد المحاضرة، قرر يوسف أن يتحدث إلى الشيخ. اقترب منه وسأله بصوت متردد: "شيخ، هل يمكن أن يكون الشك الذي يراودني أحياناً ضعفاً في إيماني؟ أشعر أحياناً أنني أضيع بين الأسئلة ولا أجد لها إجابة".
ابتسم الشيخ وقال: "يا بني، الشك ليس بالضرورة ضعفًا، بل هو دليل على أن قلبك وعقلك في بحث دائم عن الحق. الإيمان الحقيقي لا يأتي من غياب الأسئلة، بل من قدرتك على البحث عن الإجابات والصبر حتى تجدها. تذكر أن النبي إبراهيم عليه السلام، الذي كان خليلاً لله، سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى، وكان ذلك ليس لضعف في إيمانه، بل ليطمئن قلبه".
تابع الشيخ: "كل إنسان يمر بلحظات من الحيرة والشك. ولكن المهم هو ألا تستسلم لذلك الشك، بل أن تستمر في البحث عن الحقيقة. الإيمان رحلة، وليس محطة تصل إليها مرة واحدة وتنتهي".
عاد يوسف إلى منزله تلك الليلة وهو يشعر بنوع من الطمأنينة التي لم يكن يشعر بها منذ زمن. بدأ يدرك أن الإيمان ليس حالة ثابتة، بل هو نمو مستمر. وأنه يجب عليه أن يقبل تلك الرحلة بكل ما فيها من تساؤلات وصعوبات، ويثق بأن الله معه في كل خطوة يخطوها.
منذ تلك الليلة، تغيّر يوسف. بدأ ينظر إلى الحياة بمنظور جديد. فهم أن الابتلاءات التي مر بها لم تكن لعنة، بل كانت جزءًا من خطة الله له ليختبر صبره وإيمانه. والأهم من ذلك، أدرك أن الشكوك التي كانت تزعجه لم تكن سوى مرحلة من مراحل الإيمان، مرحلة تدفعه للبحث عن العمق والحقيقة.